تقرير ندوة حوارية حول " العلاقة بين اليسار و الإسلاميين: التعايش أو الصراع"
مداد - أمينة قويدر
في إطار الخلافات العميقة بين اليسار و الإسلاميين في تونس ، منذ السبعينات ، وعواقبها الوخيمة على تونس إلى اليوم ، عقد مركز دراسة الإسلام و الديمقراطية، الخميس 27 فيفري 2020، ندوة حوارية فكرية بعنوان "العلاقة بين اليسار و الإسلاميين : التعايش أو الصراع"، بمقره في مونبليزير بالعاصمة.
وأثثت هذه الندوة شخصيات سياسية ممثلة للتيارات اليسارية و الإسلامية ، بالإضافة إلى محللين سياسيين و إعلاميين كانوا شهود عيان على مراحل الالتقاء و الصراع بين الطرفين. كما حضر عدد كبير من التونسيين من مختلف التوجهات السياسية و الأيديولوجية لإثراء النقاش وتبادل وجهات النظر.
و رغم الصراع التاريخي بين الطرفين، الذي عمقه اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد بعد الثورة، أجمع الحاضرون على إمكانية خلق أرضية مشتركة بينهما من أجل التعايش المشترك، ولمصلحة تونس وشعبها أيضا.
صلاح الدين الجورشي: جذور الصراع اليساري الإسلامي
لدى إشرافه على إدارة الحوار، تحدّث الصّحفي و المحلّل السياسي صلاح الدين الجورشي عن جذور العداء بين اليسار والإسلاميين في تونس حيث قال إن الصراع بدأ منذ السبعينات ويتواصل إلى الآن رغم وجود تقاربات في مراحل تاريخية مختلفة.
و استحضر صلاح الدين الجورشي في هذا السياق حادثة اعتبرها النواة الأولى لهذا الصراع، وهي هجوم الطلبة اليساريين على زملائهم الإسلاميين، وقد كان أحدهم، عندما كانوا يصلون في أحد الأيام بمسجد يتبع المركب الجامعي براس الطابية( تونس العاصمة)، حيث عمدوا إلى التفوه بكلمات نابية معتبرين هذه الصلاة جزء من المناورة التي تستهدف القوى التقدمية للجامعة التونسية.
و من تلك اللحظة، أكد الجورشي، أن العلاقة بين الطرفين بنيت على سوء تفاهم، وعلى شكوك، دعّمتها التجربة المصريّة بخصوص الصراع بين الإخوان المسلمين و الرئيس "جمال عبد الناصر".
كما زاد النمو السريع الذي شهدته الحركة الطلابية المنتمية للاتجاه الإسلامي في ذلك الوقت من حال القلق و التوتر لدى اليساريين، خاصة مع صدور" مجلة المعرفة" الناطقة باسم الإسلاميين، الصادرة عن نفس المطبعة التي كانت تطبع صحف الحزب الدستوري الحرّ، وهو ما اعتبر دليلا قاطعا لدى اليسار التونسي بأن هذه الحركة تابعة للإخوان المسلمين في مصر وأيضا صناعة استعملها النظام لمواجهة اليسار والقوى التقدمية في تونس، وفق ما أوضحه الجورشي.
وبعد الثورة، أشار الجورشي إلى أن اغتيال القيادي في حزب الوطنيين الديمقراطيين "شكري بلعيد" كان ضربة قاضية لأي إمكانية للتقارب، و "إلى حد الآن معظم الأطراف اليسارية تعتبر أن القضية بينهم وبين الإسلاميين قضية دم و ثأر".
ورغم ذلك، أكّد الجورشي أن الديمقراطية يمكن أن تحدث المفاجأة و تغير طبيعة هذه العلاقة شيئا فشيئا خاصة مع تواجد الطرفين، اليوم، تحت قبة البرلمان وما يتطلّبه ذلك من قبول الآخر.
عبد اللطيف الحنّاشي: النظام البورقيبي وبداية الصراع
من جانبه، قال الأستاذ الجامعي و المؤرخ عبد اللطيف الحناشي إن التيارات التي تعتمد على الفكر الماركسي في تونس تنوعت و التقت في جملة من المبادئ غير أن مواقفها السياسية خاصة من الدين اختلفت.
و أوضح الحناشي أن النقاش حول المسألة الدينية في تونس لم يطرح في العهد الاستعماري بين مكونات الحركة الوطنية، كما لم تعرف تونس في العهد الاستعماري أو بعده خاصة أواخر الستينات من القرن الماضي التنظيم الديني ، وكذلك لم يعلن الحزب الشيوعي أي موقف من الدين حينها.
وبعد حصول تونس على الاستقلال، قال الحناشي إن مواقف القيادات الوطنية الماسكة للسطلة بدأت تتغير من الدين الإسلامي من ذلك الرئيس الحبيب بورقيبة الذي عادى المؤسسة الدينية وأخضعها للمراقبة، وهمّش قطاعا واسعا من الشيوخ و أفقد امتيازات الكثير منهم، في حين سعى في المقابل إلى استيعات عدد كبير و مؤثر من علماء الجامع الأعظم بل استغلّ بعضهم لتقديم رؤية عن الإسلام تختلف عمّا كان سائدا.
و أشار في هذا الخصوص إلى أن تلك الإجراءات تمّت دون أن تستند إلى نقاشات أو حوارات أو تأصيل معرفي أو حتى سياسي من قبل السلطة الحاكمة أو النخبة إلا في حدود ضيقة مما ساعد جزئيا في ما بعد على بروز حركة ذات مرجعية دينية وهي "الاتجاه الإسلامي" التي عقدت مؤتمرها الأول سنة 1979.
العجمي الوريمي: الإسلاميون سعوا للتقارب مع اليساريين و لم يجدوا نفس التجاوب
القيادي في حركة النهضة (الاتجاه الإسلامي سابقا) العجمي الوريمي، أكد أن الحركة الإسلامية سعت في مختلف مراحلها إلى مدّ اليد إلى التيارات اليسارية غير أنها لم تجد نفسد الاستعداد منها غالبا.
وأضاف أن التيّار الإسلامي، منذ ظهوره، مثّل معضلة بالنسبة لليسار التونسي، وقد تجلّي ذلك سنة 1979 عند إصدار اللجنة الجامعية المؤقتة وثيقة بعنوان " أفاق جديدة في التعامل مع التيارات الإسلامية،" التي كانت تشبه خطة "تجفيف المنابع" التي أصدرها التجمع الدستوري الديمقراطي في التسعينات.
وأوضح أن العوائق التاريخية لدى اليسار في التعامل مع الإسلاميين أضيفت إليها حواجز نفسية بعد اغتيال شكري بلعيد، غير أن بلعيد كانت له مرونة تكتيكية في التعامل مع اليسار و الإسلاميين أيضا، حيث قضى 5 سنوات فقط من عمره في الصراع مع الإسلاميين مقابل 25 سنة من صراعه مع التيارات اليسارية.
و أضاف أن بلعيد كان مهيّئا لقيادة اليسار و دعا إلى تأسيس حزب اليسار الكبير لتعديل موازين قوى مع الإسلاميين، وبمتابعة التطور الفكري و السياسي له يمكن التأكيد بأن الأمور كانت ستسير يوما ما إلى إيجاد أرضية مشتركة بين رؤيتين ضمن مشروع وطني موحد.
و أمام التطورات التي عاشتها البلاد، و بالنظر إلى روح 18هيئة أكتوبر(*)، ومتطلبات الأوضاع الجديدة في تونس من انتخابات ومشهد برلماني وحزبي جديد، يمكن القول أن هناك إمكانية للتقارب الكبير بين اليسار و الإسلاميين، وفق الوريمي.
و تابع الوريمي بـ" أن اليسار اليوم أمام خيارين: إما المعارضة مع اليمين الإقصائي والفاشي الذي يقوده الحزب الدستوري الحر وزعيمته عبير موسي، أو الحكم مع النهضة، مشيرا إلى أن الخيار الثاني أفضل و أسهل بالنسبة إليهم، وسيجعل التقارب ممكنا بين الإسلاميين المعتدلين والعلمانيين المعتدلين".
عبد العزيز المسعودي: اليسار رفض الإسلاميين بسبب اقصائهم القضايا الاجتماعية
وتفاعلا مع المداخلات السابقة، أكد القيادي في حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي عبد العزيز المسعودي أن الخلاف بين اليسار والإسلاميين ولد من سبيين، أولهما النظرة إلى الدين، والثاني يتعلّق بتغييب الإسلاميين للقضايا الاجتماعية في خطاباتهم، وقد اعترفوا لاحقا بإحداث مراجعات في هذا الخصوص، على حد قوله.
وأوضح أن اليسار لم يكن له عداء مع الإسلاميين بسبب الدين بل بسبب تغيبهم للقضايا الاجتماعية مقابل حضور الخطاب الدعوي، موضحا أن السؤال المحوري اليوم هو " لماذا تأخّر المسلمون و تقدّم غيرهم ؟" و الذي لم يجب عليه أي طرف إلى اليوم حتى الإسلاميين أنفسهم، وفق تعبيره.
و أضاف أن النهضة أرعبت المجتمع في فترة الترويكا(2013) لأنه فهم من حكمها الرجوع إلى تحكيم الشريعة و استعادة أنماط اجتماعية عفى عنها الزمن، وهو ما دفع الشعب إلى معاقبتها في انتخابات 2014 بعد أن خلق الباجي قايد السبسي التوازن السياسي عبر تأسيس حزب نداء تونس( كان رئيسه حينها).
وشدد على أن النهضة اليوم لها ميزة أساسية وجيدة، وهي حسن قراءة موازين القوى والقدرة على إبقاء مجال المناورة مفتوح، مشيرا إلى أنه سيكون لها حظ ومساهمة في المشهد السياسي التونسي مستقبلا إذا اعتمدت على الإسلام كقيم، والتي لها فيها تقاطعات مع اليساريين، ولكن لن تنجح إذا توجهت إلى الحكم عبر الشريعة.
لطفي الحجي: عقلنة الاختلاف من أجل التعايش
طرح الإعلامي لطفي الحجّي، في مستهلّ مداخلته، سؤالا اعتبره محوريا لفهم الخلاف بين الطرفين، وهو "لماذا نجح التعايش بين اليسار و الإسلاميين قبل الثورة و فشل بعدها؟".
ما قبل الثورة، أوضح لطفي الحجّي أن هيئة 18 أكتوبر للحقوق و الحريات، التي جمعت إسلاميين و يساريين و قوميين، صاغت جملة من الوثائق و المرجعيات كان يمكن استغلالها بعد الثورة بدل إضاعة الكثير من الوقت.
وفسّر الحجّي نجاح التعايش بين الطرفين قبل الثورة بمعاناة الجميع من الاستبداد، الذي كان عاملا موحّدا وخلق لديهم نوعا من التعقّل.
أما بعد الثورة، أكد الحجّي أن أكبر عنصر خبيث هو الذي ظهر بعبارة " النمط المجتمعي"، التي كانت السبب الرئيسي في الانقسام وعودة الصراعات على عاقبيها، "لأن هناك أطراف لا تريد التغيير، ولا تريد للثورة أن تنجح ، و لا تريد للتونسيين أن يتكتّلوا بمختلف مرجعياتهم الأيديولوحية و الفكرية".
و أضاف أن النمط المجتمعي أصبح شرخا كبيرا كاد أن يعصف بالمجتمع التونسي وبلغ أوجّه سنة 2013 باغتيال شكري بلعيد، مفسرا ذلك بتدخّل أطراف خارجية، ودخول الفكر السلفي الوهّابي الذي جاء إلى تونس عن قصد باستغلال واقع الحريات الموجود، ووقعت محاولات التدريب و غسل الأدمغة مدفوعة الأجر".
و أضاف: " ولذلك حمّلوا حركة النهضة ما قام به السلفيون في تلك الفترة ولكن النهضة في حقيقة الأمر لم تطرح فكرة تغيير المجتمع بل الخيمات الدعوية التي أقامها السلفيون هي التي كانت تمهّد لتغيير المجتمع و الترحيل و التسفير، و الدليل على ذلك أن أغلب من نشط في هذه الخيمات سافروا و ماتوا في محارق أخرى خارج تونس".
وأكّد أنّ هذا المخطط تواصل بعد اغتيال شكري بلعيد و كان يفترض أن يعرف الجميع هدف هذه الاغتيالات بكونها ليست بريئة و تقف ورائها أطراف معينة، وتتطلب تكتّل الجميع لمواجهتها باعتبار أن غايتها التفريق و تقسيم الساحة السياسية، و لكن للأسف هناك من سقط في الفخّ و حدث العكس، وفق تعبيره.
و شدد لطفي الحجّي على ضرورة عقلنة هذه الخلافات في تونس اليوم من أجل التعايش المشترك، وقبول الأخر عن اقتناع وليس لضرورة انتخابية أو مصلحية.
النقاش العام
ساهم الحاضرون من ممثلين عن الأحزاب و شباب و مجتمع مدني وغيرهم من التونسيين في نقاش جديّ وثري خلال هذه الندوة. وتمحورت أغلب الأسئلة حول مدى القدرة على تجاوز الصراع بين اليسار و الإسلاميين، حيث اعتبره البعض سببا رئيسيا في إهدار فرص تاريخية سواء للالتقاء أو لخدمة مصلحة الوطن.
و أكد كثيرون على أن الخلافات بين الطرفين كان له دور في تقسيم المجتمع و إذكاء النعرات الأيديولوجية و فوّتت على الوطن عديد المحطات الهامة خاصة بعد الثورة من خلال اسقاط عديد الحكومات و تعطل عدد من القوانين في البرلمان.
و دعوا في هذا الخصوص إلى مزيد تنظيم مثل هذه الندوات و الحوارات لتقريب وجهات النظر، كما دعوا الطرفين إلى الجلوس إلى طاولة الحوار من أجل تجاوز خلافات الماضي و التأسيس للمستقبل.
التوصيات
أوصى المتدخّلون بضرورة:
- جلوس اليساريين و الإسلاميين إلى طاولة الحوار حول النقاط الخلافية.
- قبول الآخر و تجنب الإقصاء لتجنب دوامة الصراعات.
- إحداث مراجعات كبرى لخلق أرضية مشتركة تخدم مصلحة الوطن.
- عقلنة الاختلافات من أجل التعايش و الاستمرارية.
- عدم إضاعة الوقت في هذه الخلافات و التفويت على تونس فرص تاريخية للتطوّر.
- التوجه إلى العمل خدمة للمصالح الكبرى للوطن.
* هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات: هي إطار عمل سياسي شكلته في 24 ديسمبر 2005 عدة أحزاب وشخصيات تونسية من مختلف التوجهات السياسية، معارضة لنظام الرئيس حينها زين العابدين بن علي، وأخذت اسمها من تاريخ 18 أكتوبر 2005 تاريخ بداية اضراب جوع شنه 8 معارضين من تيارات سياسية مختلفة قبيل القمة العالمية حول مجتمع المعلومات التي نظمت في تونس.
انتقدت الهيئة في بيانها التأسيسي الوضع العام في البلاد ودعت إلى" بلورة عهد ديمقراطي يكفل لكل المواطنين والمواطنات المساواة والحريات والحقوق الأساسية ويشكل قاعدة للمشاركة السياسية والتداول على الحكم".