مداد – أمينة قويدر
أكّد عدد من الأساتذة و المختصين، خلال ندوة حوارية نظمها مركز دراسة الإسلام والديمقراطية الخميس 22 أكتوبر 2020 حول" ارتفاع الجريمة في تونس: الأسباب وكيفية المعالجة"، أن ظاهرة الجريمة في المجتمع التونسي أصبحت تستوجب دراسة معمّقة من جميع الجوانب خاصة بعد الجرائم البشعة التي هزت البلاد مؤخرا منها اختطاف و قتل الشابة "فرح" بالعاصمة، وقتل الشابة "هيفاء" في القيروان من قبل صديقتها، و قتل "كهل" في القصرين بعد هدم "كشك" على ملكه و هو نائم داخله، في أسبوع واحد تقريبا.
ولئن عدّد الأساتذة، خلال هذه الندوة المنظمة "عن بعد" عبر تطبيقة "زووم"، و البث المباشر في صفحة المركز الرسمية على الفايسبوك، تحت إشراف نائب رئيس المركز والصحفي صلاح الدين الجورشي، عددوا أسباب الجريمة فإنهم حملوا مسؤوليتها إلى الأسرة والمدرسة و أيضا إلى ضعف الدولة وعجزها عن تطبيق القانون و مجاراة التطورات التي يشهدها المجتمع التونسي.
ترعرع الجريمة.. و سياقات معتلّة عاشتها تونس
قال رئيس المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات و وزير الثقافة سابقا و المختص أيضا في علم الاجتماع، مهدي مبروك، لدى حضوره هذه الندوة، إن للجريمة تكلفة إنسانية وأخلاقية ولكنها تعتبر أيضا فرصة نادرة للمختصين من أجل فهم مكمن العلّة بصفة موضوعية بعيدا عن الاستثمار فيها لضرب خصم سياسي أو أي طرف آخر.
و أوضح مهدي مبروك أن كل المجتمعات التي تشهد تحولات كبرى شهدت ارتفاعا في الجريمة من ذلك الثورة الفرنسية و الثورة الإيرانية و الحروب في العراق والصومال وغيرهم، و ما رافقهم من انهيار للمجتمعات.
وأضاف مبروك أن تونس أيضا شهدت منذ سنة 2010 إلى سنة 2020 أشكالا جديدة في الجرائم غيرها أنها لم تكن ذات مستوى تصاعدي مطلق و إنما مستوى متذبذب و هو ما يعني أن الجرائم في المجتمع التونسي لم تبلغ رقما قياسيا إلى حد الآن.
و فسّر الاعتقاد السائد بارتفاع مستوى الجرائم في تونس بطريقة التناول الإعلامي و ما توفر له من حرية في ذلك بالإضافة إلى الترويج المكثف لها في وسائل التواصل الاجتماعي، مشيرا إلى أنه تم على سبيل المثال تسجيل 101 قضية اغتصاب ما بين سنتي 2014 و 2015، و 61 قضية اغتصاب ما بين 2015 و 2016، و 97 قضية ما بين 2016 و 2017، و 102 قضية ما بين 2018 و 2019، كما أن تونس ليست في المراتب الأولى على المستوى العربي في الجرائم، على حد قوله.
و رغم تذبذبها، أكد مهدي مبروك أن هذه الجرائم لو وضعناها تحت مجهر المخابر الاجتماعية و الإنسانية، لوجدنا أنها تشير بشكل واضح إلى السياقات المرضية والمعتلّة في تونس، بما يبين أنها جاءت في سياق اقتصادي صعب تظافرت فيه عوامل الجريمة المباشرة منها التهميش و الانقطاع المدرسي.
كما تحدث مبروك عن الدور السياسي لهذه الظاهرة، مشددا على أن السلطة في تفتتها وعجزها عن تطبيق القانون و العدل بين الجميع، إما بتواطئ أو بتسامح أو بعدم انسجام، لها علاقة كبيرة بالظاهرة مما أدى إلى أن فكرة القانون و الدولة العادلة لم تعد سائدة في المجتمع.
و أضاف مبروك" لدينا دولة واهنة تضعف نفسها بنفسها بما ترتكب من أخطاء" مذكرا في هذا الخصوص بحادثة قتل مواطن بولاية القصرين أثناء عملية هدم لكشك بني بطريقة فوضوية وهو نائم فيه، مشيرا إلى أن الدولة في هذه الحالة فقدت صفة الدولة الحامية والعادلة و تحولت إلى طرف يشجع على عدم احترام القانون وعدم الانصياع إليها.
و لمعالجة هذه الظاهرة، اعتبر مهدي مبروك أن الإصلاح التربوي هو الرهان الكبير اليوم و يجب على الدولة عدم تفويت هذه الفرصة، كما اعتبر أن للإعلام دورا مهما في تغيير الواقع التونسي من بيئة حاضنة إلى بيئة معالجة و مخففة للجريمة.
غياب الراحة النفسية.. ووضع خارجي متأزم
من جانبه، قال الطبيب النفسي و الباحث في المسائل النفسية و الاجتماعية الدكتور أحمد الأبيض إن هناك عدة عوامل أدت إلى ارتفاع الجريمة في تونس، و هي أساسا داخلية وخارجية.
و تحدّث الدكتور، في مداخلته، عن قابلية الإنسان في أن يكون مجرما، مشيرا إلى تعرّض القرآن الكريم ومدارس علم النفس منهم "فرويد" إلى هذه المسألة حيث يقول هذا الأخير أن في النفس جانبين: الحب و الحياة، و النزعة التدميرية.
و أضاف بأن هذان الجانبان يتدافعان و المشكلة تكمن في كيفية أن يجد الإنسان التوازن بينهما" خاصة في ظل الأوضاع المتقلبة التي تعيشها تونس.
وبخصوص العوامل الخارجية، قال الدكتور إن الأوضاع الاجتماعية الهشة و ضرب قيم العمل، و التربية على عقلية التذمر بعدم الرضاء على ماهو موجود و التركيز على ماهو غير موجود، و التخلي عن المسؤولية و البحث عن عذر و كبش فداء يبرر الأفعال لدى الفرد يؤدي إلى نوع من التوتر و العنف و الجريمة أيضا.
كما بيّن أن الفشل الدراسي و السعي إلى '"قتل الوقت" عن طريق الجلوس مطولا في المقاهي مقابل التخلي عن الأنشطة و الواجبات الأخرى، و الاكتظاظ في الأحياء و ما ينجر عنها في بعض الأحيان من فوضى و انعدام الحوار، وغياب سلطة الأب و رمزيّتها في البيت كلها عوامل تؤدي إلى جعل الأبناء مشروع مجرمين.
و أضاف أن تخلي المدرسة عن دورها التربوي و تعرض الطفل إلى العنف داخل الفضاء العائلي و غياب الخطاب الديني الوسطي الإصلاحي و "ارتفاع منسوب العنف في المسلسلات التونسية كلها عوامل تظافرت و غذت منسوب الجريمة في المجتمع التونسي خاصة خلال السنوات الأخيرة.
تشوّهات الأسرة والمدرسة.. حاضنة للجريمة
الباحث بمركز الدراسات و البحوث الاقتصادية و الاجتماعية الدكتور سامي براهم بيّن أن النزوع نحو الإجرام اليوم في تونس هو نتاج طبيعي عن اضطراب القيم في المجتمع وتراجع دور المراجع القيمية.
و أوضح سامي براهم، في كلمته خلال الندوة، أن كل انسان يحتاج إلى مرجع يشده إلى الحياة و يستمد منه توازنه و جدوى حياته إلا أن هذا المرجع اختل في تونس مما أدى إلى الأنانية و الفردية.
و عدّد براهم هذه المراجع و هي أساسا الأسرة و المدرسة والدولة و غيرها من الفضاءات ذات البعد القيمي.
و تعاني الأسرة التونسية، وفق الدكتور براهم، من خلل و تشوهات كبيرة و تكون حاضنة للجريمة في بعض الأحيان، حتى أن بعض العائلات تصنع من أبنائها أشخاصا مشوهين.
ومن مظاهر ذلك، حسب براهم، انسحاب الأب و الأخ من دورهما داخل العائلة و أحيانا أخرى يكون حضورهما معقّدا للأوضاع لما يمارسانه من سيطرة و عنف، مشددا على أن الأسرة التونسية اليوم تحتاج إلى دراسات عميقة.
كما أوضح أن المدرسة تخلت عن تقديم المضامين القيمية التي تنشؤ تلميذا متوازنا، و غاب فيها المضمون القيمي المجسّد للتوازن بين الدين و المبادئ الحداثية و هو ما خلق نوعا من الانشطار و الخلل في تفكير التلميذ، مشيرا في ذات السياق إلى تخلي الدولة عن دورها وارتكابها أخطاء أثناء المعالجة.
و بين الدكتور أن هذا الأمر خلف تصادم في المرجعيات و غيّب التوازن لدى التونسي، وهو ما ولد ضعف في مستوى استشعار الجريمة مقابل ارتفاع نزعة تبسيط هذه الجرائم ونشوء فكرة القصاص الفردي و ليس عن طريق القضاء الذي أصبح بدوره محل تشكيك في ظل الافلات من العقاب.
و أكد سامي براهم أن المجرم هو آخر حلقة في الجريمة وهو أداة تنفيذ لجريمة شاركوا فيها كثّر من ذلك الأسرة، مشددا على أنه إذا لم تتم معالجة الانكسارات المتتالية داخل الفرد و لم توضح لديه القيم فإن العنف يعتبر نتيجة طبيعية.
مسؤولية المجتمع في الإصلاح
من جانبه، اعتبر رئيس مركز دراسة الإسلام و الديمقراطية رضوان المصمودي، وجود سوء فهم لدور الدولة في تونس بكونها دائما هي المطالبة بالإصلاح و التغيير و التأطير، وهو ما يتطلب تغيير هذه العقلية، وفق تعبيره.
وأكد المصمودي، في مداخلته، على ضرورة أن يبادر الشعب بالإصلاح بمختلف مكوناته من أفراد و مجتمع مدني و أحزاب و غيرهم خاصة و أن الدولة اليوم تمر بأزمة اقتصادية خانقة و أثقلت البيروقراطية كاهلها.
و دعا المصمودي في هذا الخصوص الجميع إلى الانخراط في عملية الإصلاح بما فيها معالجة ظاهرة الجريمة، مشيرا إلى أن 90% من الإصلاح بيد المجتمع و المواطن و الفرد و المجتمع المدني و "الدولة ليست المهدي المنتظر" كي تقدم حلولا سحرية، وفق تعبيره.
تفاعل افتراضي
اختار مركز دراسة الإسلام و الديمقراطية عقد هذه الندوة "عن بعد" عبر تقنية "زوم ويبينار" و البث المباشر عن طريق صفحته الرسمية على الفايسبوك، وذلك تطبيقا للبروتوكول الصحي و حماية للمتدخلين من عدوى فيروس كورونا.
و رغم أنها تجربة جديدة فرضها الواقع الصحي، فإن هذه الندوة لقيت إقبالا و رواجا كبيرين، حيث حضرها قرابة المائة شخص في تطبيقة "زوز" و حوالي 25 ألف شخص خلال البث المباشر على الفايسبوك، هذا بالإضافة إلى عدد كبير من التعليقات والمشاركات.
هذا و تم فسح المجال للمتابعين للنقاش و طرح تساؤلاتهم على المحاضرين، حيث حصل تفاعل افتراضي ثري، و تم الإجابة على جميع الأسئلة.
توصيات:
أوصى المختصّون بـ:
- توفير الرعاية النفسية للطفل وعدم ممارسة التسلّط عليه بما يعني "بناء فرد سوي".
- إعادة الاعتبار لدور الأب و الأم داخل الأسرة دون إفراط أو تفريط.
- إعادة الاعتبار للأخلاق و القيم في المجتمع .
- مباشرة الإصلاح التربوي و إيلاء الأهمية للقيم الإنسانية و الأخلاقية و الدينية في كل محاوره.
- تحمّل المساجد و دور العبادة لدورها في التوعية و الإرشاد.
- تحمّل الدولة لمسؤوليتها في احترام الحقوق والحماية للأفراد من جهة و العدالة و فرض القانون من جهة أخرى.
- مبادرة الشعب والمجتمع المدني و المثقفين و كل مكونات المجتمع بالإصلاح لمعاضدة جهود الدولة.